الاثنين، ٣٠ يونيو ٢٠٠٨

رحل ابي.. رمز القيم الجميلة في مصر

البوست دة كتبه محمود اخويا من لندن و طلب منى انزله على المدونة...



قضى ابي السنوات العشر الاخيرة من عمره في صراع مع امراض الكلى. في البداية لجأ الاطباء الى العلاج بالادوية، لكن لما استفحلت المشكلات اضطر والدي الى اللجوء لغسيل الكلى ثلاث مرات اسبوعيا في ايام السبت والاثنين والاربعاء، وكانت كل جلسة تستمر من السادسة صباحا حتى العاشرة.
ورغم ان والدي بدأ في غسيل الكلى بعد ان تجاوز الخامسة والسبعين من العمر، ورغم كل ما في هذه الجلسات من مشقة وارهاق وآلام، وما يلزمها من عمليات فرعية وتحليلات وغيرها، لم اسمع والدي يوما يشكو من شدة المرض او يتضرر من قسوته وارهاقه، بل كان دائما صابرا محتسبا، ويتحدث عن المرض ومشكلاته، كما يتحدث عن غيره من امور الحياة، ببساطة وهدوء.
وما اتصف به والدي من جلد وقوة تحمل هو النتاج الطبيعي لرجل بتكوينه. فوالدي من جيل علماء الازهر الذي كان يقوم بدور قيادي على مختلف المستويات. على المستوى الاجتماعي كان والدي يقوم بتعليم ابناء قريته وارشادهم، بل والقضاء بينهم في كثير من الاحيان اذا وقعت بينهم خلافات.
وعلى المستوى السياسي كان هذا الجيل بين القوى الاساسية التي تقاوم الاحتلال البريطاني، وتنشط في المظاهرات والمؤتمرات سعيا للاستقلال. وهذا يعني ان اغلب ابناء هذا الجيل اعتادوا المقاومة والاعتزاز بالنفس، ومنهم والدي.
اضف الى هذا ان والدي كان ابن القرية الذي يعود اليها في الصيف يعمل في حقولها ويتحمل مشاق زراعة الارض، ويتنافس مع من يعملون معه، كما كان يروي لنا، في انه على الرغم من كونه الشيخ المتعلم الذي يقضي شهورا بعيدا عن الارض، الا انه يستطيع ان يسبقهم في الري او الجني او غيرهما من اعمال الزراعة.
هذا هو تكوين والدي رحمه الله: حمل معه الدور القيادي والاجتماعي لجيله من مشايخ الازهر، وحمل معه قوة وصبر الفلاح المصري، وانعكس هذا التكوين على مختلف ادوار حياته حتى توفاه الله.
كان والدي بالنسبه لاسرته الممتدة في محافظة كفر الشيخ "رئيس مكتب رعاية المصالح" كما كنت اطلق عليه، فهذا يأتي لمنزلنا وهو يطمح ان يساعده ابي في توظيف ابنه، وهذا يسعى لانقاذ ابنه من التجنيد في منطقة نائية، وثالث يسعى لالحاق ابنه بكلية الشرطة او الكلية الحربية، وآخرون وقعوا في خلاف ويوسطون ابي في الحكم بينهم. وكان ابي يفعل كل ما يستطيع لمساعدتهم. باختصار كان ابي عميد الاسرة، الا ان محل اقامته في القاهرة!
وعلى الرغم من ضيقي من الجحود ونكران الجميل من جانب بعض افراد الاسرة، الا ان والدي كان مصرا على القيام بدوره باعتباره، ببساطة، واجبه الذي يجب ان يقوم به، والجزاء من الله سبحانه وتعالى كما كان يقول.
اما في عمله في شركة المحاريث والهندسة، والذي استمر اكثر من 35 عاما، فكان الاداري الحازم الذي يحظى باحترام وتقدير الجميع. وتم اسناد ادارة بعض الفروع والادارات اليه بعد ان استفحل فيها الفساد، وكان المسؤولون عن الشركة يريدون رجلا نظيف اليد حسن السمعة فكان والدي.
اما بين ابناءه فقد ربانا على الانضباط والحزم، وفي نفس الوقت حرية اتخاذ القرار بعد التوجيه. ربانا على مبادئ الاسلام الجميلة السمحة دون تشدد او تعصب، ويكفي ان اذكر، تعبيرا عن تسامحه، ان الطبيب الذي اشرف على ولادة ابناءه الثلاثة كان قبطيا، وان بعض اقرب زملاءه في العمل كانوا اقباطا، وكانوا يترددون على بيتنا باستمرار، ويأتمنون والدي على ادق اسرارهم.
وفهمت اكثر عمق تسامح والدي بعد ان عملت في اوروبا، ورأيت كثيرين يعانون من قسوة العنصرية والتمييز ممن يحملون مشاعر شديدة العداء لمن يختلفون عنهم في الدين او العرق.
ومرت السنوات علي في الغربة، كان ابي دائما يمثل بالنسبة لي القيم الجميلة في مصر: الايمان والصبر والشهامة والكرم ومساعدة المحتاج والاعتزاز بالنفس والاعتزاز بالاسرة.
لم يتوقف ابي عن اداء دور "عميد الاسرة"، ولم يتوقف عن القاء خطبة الجمعة حتى وفاته، ولا تفسير عندي لكل الهمة والحيوية التي كانت تصاحبه يوم الجمعة، وهو في الثمانين من العمر، الا انها تيسير وتوفيق من الله.
لم يتوقف والدي عن تقديم الاستشارات في الدين والحياة لكل من يطلب، من جيران واصدقاء واقارب، حتى وفاته. ولهذا لم يكن مستغربا هذا الجمع الكبير من المحبين الذي احتشد في عزاءه.
لا اصدق ان نحو شهرين قد مرا على وفاته، فقد توفاه الله يوم 2 مايو 2008، ولم استطع ان اكتب عنه شيئا خلال هذين الشهرين نظرا لشدة حزني اذ انني لم اكن معه لحظة وفاته، لكن هذه هي الدنيا لا تدوم لاحد.
ادعو الله ان يرحمه، وارجو من كل من يقرأ هذا المقال ان يدعو له.

الثلاثاء، ٣ يونيو ٢٠٠٨

أبى فيلسوف البساطة


فى يوم الجمعة 2\5 و فى وقت اذان الجمعة كان موعد لقاء ابى بربه
و قد وصفت امى هذه الوفاة انها تمت ببساطة, نعم.. ففى لحظات تمت الوفاة و بلا مقدمات واضحة و كأن الوفاة البسيطة ما هى إلا تتويج لحياة ابى البسيطة, فأبى يحمل تاريخ المواطن او قل الوطن المصرى.. فقد عاش ابى اكثر من ثمانين عاما..

عاش الملكية بطحنها للفقراء و حريتها السياسية و خرج فى مظاهرات تهتف بسقوط الملك...
و عاش الثورة و فرح بها و انكوى بقيدها و ديكتاتوريتها ...
وعاش نصر 73 و طحنه الانفتاح برحاه مع من طحن من موظفين القطاع العام...
وعاش عصر مبارك و شهد سرقة البلد و تمنى ان يرى نهايته كما رأى نهاية من قبله لكن القدر لم يمهله فتوفاه الله قبل ان يسرق مبارك معاشه و تأمينه الصحى.

كان هدف ابى فى حياته مثل كل مواطن مصرى بسيط ان تستمر الحياة رغم كل الصعاب و رغم كل القهر.. هدف بسيط لكنه عبقرى.. فالعبقرية فى البساطة و لا يشعر بعبقريته الا من ذاق قهر النظام فى بلدنا....
عاش باهداف بسيطة و ادوار بسيطة و لكنها عظيمة و اداها فى سهولة و يسر و نجح فيها, أبى لم يعرف يوما المظهرية او الزخارف الدنيوية و لكنه عرف ان له دور هو و هو ان يستطيع ان يوفر الستر و التعليم و التربية الحسنة لأبناءه حتى يصل بهم الى بر الامان و بر الامان عنده هو ان يكون كل واحد من ابناءه قادر على تحمل مسئوليته.
برع ابى فى التربية و كان مضرب المثل للأبوة فكان يتمتع بحنان الاب و بحزمه و اعطاؤه الحرية لأبناءه فى الاختيار بعد التوجيه و النصح...
لكن لعل ما قلته يشترك فيه ابى مع غيره من مواطنى مصر البسطاء و لكن ما سوف اقوله اظنه مختلفا, فقد كان لأبى دور اجتماعى كبير شعرت به يوم عزاءه عندما جاء إلينا القريب و البعيد يحمد لأبينا ما فعله معه, فهذا عينه ابى فى وظيفة ما و هذه اصلح بينها و بين زوجها و آخر ارشده كيف يربى ابنه و رابعا ساعده سرا (جمعية خيرية متنقلة بلا مقر ولا لافتة او اعلان.. هكذا كان ابى)

و الامر العجيب هو تفهمه لكونه خريج ازهر.. فكان يقول ان خريجى الازهر هم علماء الامة و يجب ان يكون لهم _و قد كان له_ دور... فمنذ ان كان طالبا و انشئ مسجد قريته, خطب فى الناس و علمهم دينهم و فى فترة الستينات عندما ضيق على الخطابة ظل يمارس دوره فى عمله و اسرته و جيرانه و ما لبث ان عاد إلى الخطابة فحتى وفاته و قد تجاوز الثمانين كان حريصا على خطبة الجمعة, حتى اختار الله وقت الخطبة و هو الوقت الذى يحبه ليكون وقت وفاته و لقاء ربه ليموت ببساطة و يغسل و يدفن بسهولة و بساطة كما كان يتمنى....و ليترك نموذجا فى العبقرية و الفلسفة و البساطة.